فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

{لا تحرك به لِسانك لِتعْجل به (16)}
وحي القرآن ووحي السنة.. هذا غير ذاك قوله تعالى: {لا تحرك به لِسانك لِتعْجل به إِنّ عليْنا جمْعهُ وقرآنه}.
تبدو مناسبة هذه الآيات، للآيات التي قبلها، ثم للآيات التي بعدها- تبدو المناسبة بعيدة في ظاهر الأمر، حيث أن هذه الآيات حديث خاص إلى النبيَّ، في شأن من شئون تلقّيه الوحى.. وما بعد هذه الآيات وما قبلها، هو عرض للمشركين والضالين في موقف الحساب والجزاء يوم القيامة.. فما سرّ وضع هذه هذه الآيات هنا؟ وما المناسبة الجامعة بينها وبين ما تقدمها، وما جاء بعدها؟
نقول واللّه أعلم: إن هذا الترتيب الذي جاء عليه نظم هذه الآيات، يشير إلى أكثر من دلالة، ويومئ إلى أكثر من مقصد:
فأولا: هذا القطع لنسق النظم، في صورة فجائية، وبلا مقدمات- هو إلفات قاهر، لا إرادى، لأولئك المشركين الذين يكذبون بيوم الدين، ويكذبون بما تلا عليهم رسول اللّه من آيات اللّه، وما تحمل إليهم هذه الآيات، من أخبار هذا اليوم، وأحداثه.. وفى هذه اللفتة القاهرة يرون النبي في مقام التلقّى عن ربه، وفى مجلس التلقين، والتعليم منه، سبحانه، وأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- يتعلم مما علمه اللّه، وأن هذا العلم لا يستأثر به وحده، وإنما هو مأمور بحمله وعرضه على الناس جميعا، ليأخذوا حظهم كاملا منه..
ولا شك أن هذا من شأنه أن يخفف كثيرا مما في قلوب المشركين من مشاعر الحسد للنبى، والغيرة منه، كما أن هذا الموقف يفتح عيون كثير من المكذبين والمعاندين على وجه الحق الذي غاب عنهم في دخان الحسد المنبعث من صدورهم، حيث يرون النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- يتلقى هذا التحذير والتأديب في مقام التعلّم، وأنه ليس هناك أمام عظمة اللّه عظيم.. إن اللّه سبحانه هو رب العالمين، وكلهم مربوبون له، منقادون لأمره، وأن ما جاءهم به النبي قد احتمل في سبيله جهدا أو مشقة، وهم يتلقونه منه دون أن يسألهم عليه أجرا..
وثانيا: الطبيعة البشرية يغلب عليها حب التملك، ومن أجل هذا كان شأن الناس إيثار العاجل على الآجل، والحاضر على الغائب، وكان من هذا أن صرف كثير من الناس أعينهم عن الحياة الآخرة، وأقاموا بينهم وبينها سدودا من الخداع، والتضليل، حتى لا يروا لها أثرا يلفتهم إليها، ويقطع مشاعرهم المنصرفة كلها إلى الحياة الدنيا، وما هم فيه منها.. وفى عرض النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- في هذا الموقف الذي يستعجل فيه النطق بكلمات الآية وحفظها، قبل أن تفلت منه- في هذا ما يكشف المشركين عن أن حب العاجل طبيعة مركوزة في الناس، كما يقول سبحانه وتعالى: {خُلِق الإنسان مِنْ عجلٍ} (37: الأنبياء) وأن العجلة غير محمودة حتى في مقام الإحسان، وفى طلب الخير.. بل إن الرفق، والتوسط في الأمور هو المحمود، وهو الذي يتيح للإنسان فرضه التروي والتعقل، ووزن الأمور بميزان الروية والعقل.. فكيف بالمشركين وهم يخوضون خوضا في متاع الحياة الدنيا؟ أفلا يكون منهم تمهل في هذا الجري اللاهث وراء هذا الحطام الزائل؟ ثم ألا يكون منهم وقفة مع هذا الذي يدعوهم النبي إليه؟
وثالثا: إذا كان على النبي أن يصغى إلى الوحى، ولا يحرك لسانه قبل أن ينتهى رسول الوحى من إلقاء بإلقاء ما يوحى به إليه، وذلك لتكتمل صورة المعاني المراد إلقاؤها على النبي، ولتقع من نفسه موقعا واضحا متمكنا- إذا كان على النبي أن يفعل هذا، مع كلمات اللّه- أفما كان على الذين يستمعون من النبي لآيات اللّه، أن يصغوا إليها، وألا يفتحوا أفواههم بكلمة وهم بين يديها، حتى ينتهى عرضها، ليكون لهم سبيل إلى فهم معانيها، وإدراك بعض أسرارها؟..
قيل إن النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- كان وهو يتلقى سورة القيامة من الوحى، وذلك في أوائل اتصال النبي بالوحى- كان يخشى أن تفلت منه بعض الكلمات، أو يختلف عليه نظامها، فيبادر- حرصا منه- بتلقف الكلمة من جبريل، قبل أن يتم الآية.. فلما بلغ معه الوحى إلى قوله تعالى: {بلِ الإنسان على نفسه بصِيرة ولوْ ألْقى معاذِيرهُ}
ـ نزل عليه قوله تعالى: {لا تحرك به لِسانك لِتعْجل به إِنّ عليْنا جمْعهُ وقرآنه}.. ولا شك أن هذا شاهد من شهود القرآن التي لا تحصى، على أن هذا القرآن من عند اللّه، وأن ليس لمحمد إلا تلقيه من الوحى، وحمله إلى الناس..
وإلا لو كان هذا القرآن من كلام محمد- أكان محمد يلبس هذه الشخصيات جميعها، فيكون مخاطبا وغائبا، وناهيا ومنهيّا، كل ذلك في حال واحدة، وموقف واحد؟.
أيعقل في هذا الموقف الذي يواجه فيه المشركين بهذه النذر المطلة عليهم من يوم القيامة- أيعقل في هذا الموقف، أن يقطع محمد هذا العرض، ثم يتحول إلى نفسه، محاسبا، وناصحا وموجها؟ وما شأن الناس بهذا، لو كان محمد هو صاحب هذا الموقف، والمصور له بكلماته؟..
إن صاحب الموقف- وهو اللّه سبحانه وتعالى- هو الذي يملك أن يقطع هذا العرض، وأن يلقى على المتلقى عنه، ما يشاء من توجيه، وإرشاد، حتى يجيء العرض واضحا، كاملا.. إن الذي يملك الموقف كله، قوة قائمة على محمد، وعلى من يلقاهم محمد بهذا الحديث.. وتلك القوة هي التي تدير الخطاب، وتوجهه كيف تشاء إلى أىّ من المخاطبين، أفرادا، أو جماعات..
وقوله تعالى: {لا تحرك به لِسانك}
نهى يراد به النصح والتوجيه إلى ما ينبغى أن يكون عليه النبي مع الوحى، وهو ألا يحرك لسانه بكلمات القرآن، قبل أن ينتهى جبريل من الوحى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {ولا تعْجلْ بِالقرآن مِنْ قبْلِ أنْ يُقْضى إِليْك وحْيُهُ وقُلْ ربِّ زِدْنِي عِلْما} (114: طه)..
فإن كل كلمة يوحى بها إلى النبي، هي علم يزداد به علمه، فلا يعجل يقطع هذا المدد الذي تهمى عليه غيوثه.
وقوله تعالى: {لِتعْجل به} بيان للسبب الذي من أجله كان يسرع النبي بترديد الكلمات التي يسمعها من جبريل.. إنه- لشدة شوقه، إلى كلمات ربه- لا يكاد يسمع الكلمة تقع في قلبه من جبريل، حتى يسرع بالنطق بها، ليذوق حلاوتها على لسانه، كما ذاق حلاوتها في قلبه..
وقوله تعالى: {إِنّ عليْنا جمْعهُ وقرآنه}..
هو تطمين النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من أنه لن يفوته حفظ شيء مما يوحى إليه من آيات ربه، فإن اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي يتولى جمع هذا القرآن كله في صدره- صلوات اللّه وسلامه عليه- كما سيتولى سبحانه، حفظه على الزمن، قرآنا تعمر به قلوب المؤمنين، وترتله ألسنة الحافظين، كما يقول سبحانه: {إِنّا نحْنُ نزّلْنا الذِّكْر وإِنّا لهُ لحافِظُون} (9: الحجر)..
قوله تعالى: {فإِذا قرآناهُ فاتّبِعْ قرآنه}. وفى إسناد القراءة إلى اللّه سبحانه وتعالى، تشريف، وتكريم النبي، الذي يسمع آيات اللّه متلوة عليه من ربه، وإن كان جبريل عليه السلام، هو الذي ينقلها إلى النبي..
وهذا يعنى أن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- إذ يتلقى آيات اللّه، من جبريل عليه السلام، يجد فيها نداء الحق سبحانه وتعالى له، ويسمع خطابه سبحانه وتعالى إليه..
ونقول- واللّه أعلم- إن النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- حين كان يوحى إليه بآيات اللّه، يسمع ما يوحى إليه لفظا من جبريل، ومعنى من اللّه سبحانه وتعالى.. وعلى هذا المعنى يكون الضمير {نا} في قوله تعالى: {قرآناه} عائدا إلى اللّه سبحانه وتعالى، وإلى جبريل، أي أن الحق سبحانه وتعالى يقول للنبى: إذا قرأت القرآن عليك بمعناه، وقرأه جبريل عليك بألفاظه، فلا تعجل بتحريك لسانك. بترجمة هذه المعاني إلى ألفاظ، بل تمهل وخذ الألفاظ التي يلقيها عليك جبريل، حتى تتحقق الصورة الكاملة، للمطابقة بين اللفظ والمعنى!!.
وعلى هذا المعنى يكون قوله تعالى: {فاتّبِعْ قرآنه} أي اتبع قراءة رسول الوحى جبريل، وقف عند حدود الألفاظ التي يلقيها إليك، ولا تتازعه بما يسبق إليه خاطرك من كلمات تريد أن تمسك بها من هذه المعاني التي قذفها اللّه سبحانه وتعالى في قلبك، قبل أن تفلت منك..
وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، هو معنى لا نظن أحدا من المفسرين قد التفت إليه، على كثرة ما توارد على هذه الآية من مختلف الآراء..
فنرجو أن يكون هذا الرأى أقرب إلى الحق، وأدنى إلى الصواب..
ولعل هذا يفسر لنا تلك الحال التي كانت تعرو النبي في أثناء الوحى، وما كان يغشاه من شدة، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد كما تقول السيدة عائشة رضى اللّه عنها!!
وليست هذه الحال التي كان يعانيها النبي من الوحى- دون سائر الأنبياء- ليست إلا لأن اللّه سبحانه وتعالى يتجلى على النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- في كلماته القرآنية، ساعة تلقيها من جبريل..
ونقول إن تلك المعاناة التي كان يعانيها النبي من الوحى، هي خاصة به وحده، دون ما نعرف من الوحى الذي يوحى إلى الأنبياء، والرسل، لأن الذي يقصه القرآن علينا من أمر الرسل، وصلتهم بالوحى، هو أن- رسول الوحى، أو رسل الوحى، كانو يجيئون إليهم في صورة بشرية كاملة، يلتقون بهم فيها كما يلتقى الناس بالناس، ويتحدثون إليهم كما يتحدث الناس إلى الناس.. فلم يكن الرسول من هؤلاء الرسل الكرام، يشعر بأن قوة خفية دخلت عليه، أو خالطت وجدانه، ومدركانه، وذلك على غير ما كان في حال الوحى مع رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه، وما كان يلقى في تلقّى الوحى من شدّة.
فقد جاء الوحى إلى إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل في صورة رؤيا رآها في المنام.. كما يقول سبحانه على لسانه: {يا بُنيّ.. إِنِّي أرى فِي الْمنامِ أنِّي أذْبحُك.. فانْظُرْ ما ذا ترى} (102: الصافات).. كذلك جاء الوحى إليه في صورة جماعة من الضيوف، نزلوا عليه: {هلْ أتاك حديث ضيْفِ إِبْراهِيم الْمُكْرمِين إِذْ دخلُوا عليْهِ فقالوا سلاما قال سلامٌ قوْمٌ مُنْكرُون فراغ إِلى أهْلِهِ فجاء بِعِجْلٍ سمِينٍ فقرّبه إِليْهِمْ قال ألا تأْكُلُون فأوْجس مِنْهُمْ خِيفة قالوا لا تخفْ وبشّرُوهُ بِغُلامٍ علِيمٍ فأقْبلتِ امْرأتُهُ فِي صرّةٍ فصكّتْ وجْهها وقالتْ عجُوزٌ عقِيمٌ قالوا كذلِك قال ربُّكِ إِنّهُ هُو الْحكِيمُ الْعلِيمُ} (24- 30: الذاريات)
كذلك جاء، الوحى إلى لوط عليه السلام، في صورة هؤلاء الضيف الذين نزلوا على إبراهيم.. وفيهم يقول لوط لقومه: {إِنّ هؤُلاءِ ضيْفِي فلا تفْضحُونِ واتّقُوا اللّه ولا تُخْزُونِ} (68- 69: الحجر).. ويقولون هم- أي الملائكة- الوط: {يا لُوطُ.. إِنّا رُسُلُ ربِّك}..
وإذا كان من الرسل من تلقّى الوحى على صورة أشبه بالصورة التي تلقى عليها النبي كلمات ربه- فهو موسى عليه السلام..
ونقول أشبه بالصورة التي تلقّى عليها النبيَّ كلمات ربه، ولا نقول مثلها، لأن موسى- عليه السلام- كان يسمع من ربه حقائق المعاني التي يلقيها إليه، ثم يصوغها هو في الألفاظ التي يراها مناسبة لها.. ولهذا، فإنّ موسى- وإن أخذه جلال التجلي لكلمات اللّه عليه.. فإن ذلك كان أخفّ عليه وطئا مما كان يأخذ النبيَّ صلوات اللّه وسلامه عليه، لأنّ النبيَّ مع وقوعه تحت سلطان هذا التجلّى، كان واقعا من جهة أخرى تحت غشيان الرّوح السماوىّ له، وتلبسه به، ونقل كلمات اللّه إليه.. فالنبيَّ هنا واقع تحت سلطان التجلّى من اللّه سبحانه وتعالى عليه، وتحت تلبّس الملك السماوىّ- جبريل- به.. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام، يعانى من شدّة الوحى أكثر مما كان يعانى موسى عليه السلام.. أما الشريعة الموسوية، فقد تلقاها موسى عليه السلام مكتوبة في الألواح..
وما كنّا نريد أن نذهب إلى هذا الذي ذهبنا إليه في مفهومنا لتلك الآيات مخالفين بذلك أكثر المفسرين، في فهمها على غير هذا الفهم.
ثم ما كنا نريد أن نذهب إلى أبعد من هذا الذي ذهبنا إليه.. ولكن الأمر ليس إلينا، ونحن بين يدى آيات اللّه.. إنها هي التي تشدنا إليها،
وتبسط سلطانها علينا، فلا تملك أن نبرح ساحتها إلا باستئذان، وإذن، منها، وإنه لكفران بالإحسان أن نبرح هذا المنزل الكريم الذي نزلناه من تلك الآيات، وأن نقطع هذا الرزق الموصول إلينا من بين يديها، وأن نعجل بقطع هذا الخير الذي تلقانا به.
فنحن سنمضى معها على هذا الطريق إلى غايته، نرجو مزيدا من العطاء ونلتمس مزيدا من النور..
ويلقانا هنا سؤال:
لما ذا لم يجيء الوحى إلى النبيَّ في صورة بشرية، على نحو ما كان يأتيه عليه في بعض الأحيان.. فيكون ذلك أخفّ وطئا عليه، من الصورة الملكية التي كان يأتيه عليها في معظم الحالات، والتي كان يعانى منها ما يعانى من شدّة؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أن الأحوال التي كان يأتى عليها الموحى به قرآنا، كان الوحى صورة خاصة، لا تتبدّل، ولا تختلف، وإن كان الموحى به حديثا قدسيا، جاء الوحى على صورة خاصة أيضا، وإن كان الموحى به حكمة، وهى السنة القولية أو الفعلية، كما يشير إليه قوله تعالى: {ذلِك مِمّا أوْحى إِليْك ربُّك مِن الْحِكْمةِ} (39: الإسراء)- نقول إذا كان الموحى به حكمة، جاء الوحى على صورة خاصة كذلك..
وهكذا..
روى أن الحارث بن هشام سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه: كيف يأتيك الوحى؟ قال: «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس.. وهذا أشده علىّ، فيفصم عنى وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل الملك رجلا فأعى ما يقول».
فالحال التي كان يأتى فيها الوحى مثل صلصلة الجرس، هي الوحى الذي ينزل بالقرآن، حيث لا يستطيع رسول الوحى، جبريل عليه السلام، أن يبلّغ كلمات القرآن إلا وهو في حال الملكية، وهنا يجذب النبيَّ إلى الخروج من حالة البشرية إلى حال هو أقرب فيها إلى عالم الملائكة، وهذا لا يكون إلا عن مجاهدة عظيمة، وإلا بعد معاناة، يجد منها النبيَّ كربا، ويعانى منها شدة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {ثُمّ دنا فتدلّى فكان قاب قوْسيْنِ أوْ أدْنى} (8- 9: النجم).
أمّا في حال تمثّل الملك رجلا، فإن الملك هو الذي يحاول الخروج من صورته الملكية إلى صورة بشرية، فيلتقى بالنبيّ، كما يلتقى الإنسان بالإنسان.. وهذه الكيفية من الوحى، تكون فيما يوحى به إلى النبيَّ من الأحاديث والسنن القولية أو الفعلية، أو التقريرية، التي أثرت عن النبيَّ..
من قول أو فعل أو تقرير.. في حال التشريع، وهو وحي من عند اللّه كذلك، وهذا مما يشير إليه قوله تعالى: {وما ينْطِقُ عنِ الْهوى} (3: النجم).
وقد ثبت من تاريخ نزول القرآن، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كثيرا ما كان ينزل عليه الوحى وهو بين أصحابه، فيغشاه ما يغشاه من شدّة، حتى إذا قتّى الوحى، كان أول ما يتحدث به الرسول إلى أصحابه وكتّاب وحيه، هو ما نزل به الوحى عليه من آيات ربه.. وهكذا، في جميع ما يروى من الأخبار الثابتة.. كل حال كان يأتى فيها الوحى إلى النبيَّ مثل صلصلة الجرس، كان الموحى به إليه في تلك الحال، قرآنا كريما، لا حديثا قدسيا، ولا سنة قولية أو فعلية..
كذلك ثبت من تاريخ السنّة النبوية.. القولية، والتقريرية.. أن ما كان يوحى به إلى النبيَّ في هذا المقام، إمّا بإلهام من اللّه، وإمّا بوساطة رسول الوحى يتمثل النبيَّ في صورة بشرية..
فقد ثبت أنه حيث فرضت الصلاة، جاء جبريل إلى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيده، ثم همز الأرض بقدمه، فتفجر الماء، فتوضأ، وتوضا النبيَّ معه.. ثم صلى به الصبح.. وفعل كذلك مع النبيَّ عند صلاة الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء.. وبيّن له أوقاتها، وعدد ركعاتها.. وكما فعل جبريل مع النبيَّ، فعل النبيَّ مع المؤمنين، وصلّى بهم الصلوات المفروضة، ثم قال: «صلّوا كما رأيتمونى أصلّى».
يروى عن ابن عباس قال: «لما افترضت الصلاة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل، فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظلّه مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر، ثم جاءه فصلى به الظهر من غده، حين كان ظله مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها في الأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلاث الليل الأول، ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق.». ثم قال: «يا محمد، الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس»..
وعن أبى هريرة رضى اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «سلونى، فهابوا أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبته، فقال: يا رسول اللّه: ما الإسلام؟ قال: لا تشرك باللّه شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان. قال: صدقت! قال: يا رسول اللّه: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن باللّه وملائكته وكتابه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله. قال صدقت! قال يا رسول اللّه: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك!.. قال صدقت، ثم قام الرجل، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ردّوه علىّ. فالتمس فلم يجدوه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل، أراد أن تعلّموا إذ لم تسئلوا»! ومن ذلك أيضا، ما روى من أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، دعا الناس، فقال هلّموا إلىّ، فأقبلوا إليه، فقال: «هذا رسول رب العالمين، جبريل، نفث في روعى أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وإن أبطأ عليها، فاتقوا اللّه، وأجملوا في الطلب».
ولا يعترض على هذا بما كان من أول لقاء لجبريل مع النبيَّ في غار حراء، وأنه جاءه- كما يقال- في صورة بشرية، وأنه أقرأه قوله تعالى: {اقرأ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق خلق الإنسان مِنْ علقٍ اقرأ وربُّك الْأكْرمُ الّذِي علّم بِالْقلمِ علّم الإنسان ما لمْ يعْلمْ}- فكيف إذن يتفق هذا مع القول بأن الوحى القرآنىّ إنما كان ينزل به جبريل على النبي في صورته الملكية، دائما، وفى جميع الأحوال؟
وردّنا على هذا، أن جبريل إذا كان في أول لقاء له مع النبيَّ، قد جاء في صورة بشرية- فإنه لم يلقه بالقرآن من أول الأمر، وإنما الذي حدث- كما هو ثابت في تاريخ القرآن- أن جبريل دعا النبي إلى أن يقرأ، فقال له: {اقرأ}..
هكذا قراءة مطلقة، وأن النبي أجابه الجواب الذي تقتضيه داعية الحال، فقال: «ما أنا بقارئ».
وهكذا تردد الأمر بين جبريل والنبي، ثلاث مرات، فلما كانت الرابعة غطّه جبريل غطّا شديدا، كاد يفقد معه وعيه.. ثم قال له:
{اقرأ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق}. الآيات.
فهذا هو القرآن الذي أوحى به جبريل إلى النبي، وقد أوحاه إليه في صورة خرج بها عن حاله التي تمثل فيها له بشرا.. فإن هذه الغطة غيّرت الموقف تغيرا تاما، فجمعت بين جبريل، وبين النبي في كيان ملكى بشرى.. فكان النبي بشرا يقترب من الملك، وكان جبريل ملكا يقترب من البشر! وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الوحى القرآنى، كان دائما على تلك الصورة التي لا يتمثل فيها جبريل رجلا، يخاطب النبيَّ بلسان بشرىّ، وإنما كان يأتيه مثل صلصلة الجرس..
والذي نريد أن نصل إليه من حديثنا هذا، هو أن القرآن الكريم، كان يتلقاه النبي من الوحى على صورة خاصة ملازمة دائما، وهى أن جبريل كان فيها لا يخرج عن صورته الملكية إلا بالقدر الذي يستطيع فيه أن يلتقى مع النبي وهو ساع إلى لقائه في صورة ملائكية، بشرية، كما كان النبي يرتفع إلى أعلى أفق نحو الملائكية، ولا ينسلخ انسلاخا كاملا من ثوب البشرية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {ثُمّ دنا فتدلّى فكان قاب قوْسيْنِ أوْ أدْنى} (8- 9: النجم) على ما ذهبنا إليه في تفسير هذه الآيات في سورة النجم، وعلى أن الضمير فيها عائد إلى جبريل عليه السلام.
وهذا يعنى أن جبريل عليه السلام، كان في تلك الحال التي ينزل فيها بالقرآن واقعا تحت تجلّى اللّه سبحانه وتعالى عليه بكلماته التي يوحيها إلى النبي.
فجبريل إذ يتصل بالنبي، في مقام تنزل آيات اللّه عليه- يكون في حال أشبه بحال النبي.. كلاهما يتلقى تجليات آيات اللّه عليه، وإن كان جبريل هو الذي يتلقى صدمة الصعقة أولا، حتى يخّف على النبي وقعها.. وهذا يعنى أن النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- إنما يسمع كلام اللّه سبحانه وتعالى له، من خلال جبريل، أي أن جبريل عليه السلام يكون أشبه- مع المفارقة البعيدة في صورتى التشبيه- بجهاز استقبال وإرسال معا.. يتلقى كلام اللّه سبحانه وتعالى، فتنطبع عليه صورته، ثم يذيعه كما انطبع عليه..
ولهذا كان يسمع النبي- الوحى- في تلك الحال- كصلصلة الجرس، أي أنه يأت يه من جميع الجهات، لأن المتكلم به هو اللّه سبحانه، ولو كان جبريل هو المتكلم بالقرآن لسمع النبي كلامه من جهة واحدة، كما كان يحدث فيما يوحى به جبريل من أحاديث قدسية، أو أحاديث نبوية.. واللّه أعلم.
هذا، وبعد أن فرغت من تقرير هذا الرأى، اطلعت على رأى لعالم جليل من علماء سلفنا الصالحين، هو الدباغ، في كتابه: (الإبريز) الذي تلقاه عن ابن المبارك.. وفى هذا الرأى يذكر الدباغ فروقا دقيقة بين القرآن الكريم، والحديث القدسي، والحديث النبوي، ومن هذه الفروق تتبين الأحوال التي كان عليها النبي، وهو يتحدث بالقرآن، أو بالحديث القدسي، أو الحديث النبوي.
وقد رأينا أن ننقل كلمات الدباغ، لأنها تلقى أضواء كاشفة على موضوعنا هذا، الذي قررنا فيه أسلوب الوحى القرآنى، وكيف كان يوحى به إلى النبي..
سئل الدباغ عن الفرق بين القرآن، والحديث القدسي، والحديث النبوي.. فقال: الفرق بينها، وإن كانت كلها خرجت من بين شفتيه صلى الله عليه وسلم، وكلها معها أنوار من أنواره صلى الله عليه وسلم- أن النور الذي في القرآن قديم، من ذات الحق سبحانه، لأن كلامه تعالى قديم.. والنور الذي في الحديث القدسي من (روحه) صلى الله عليه وسلم، وليس هو مثل نور القرآن، فإن نور القرآن قديم، ونور هذا- أي الحديث القدسي- ليس بقديم..
والنور الذي في الحديث الذي ليس بقدسى من (ذاته) صلى الله عليه وسلم.. فهى أنوار ثلاثة، اختلفت بالإضافة.. فنور القرآن من ذات الحق، ونور الحديث القدسي من روحه صلى الله عليه وسلم، ونور ما ليس بقدسى، من ذاته صلى الله عليه وسلم..
فلما سئل الدباغ: ما الفرق بين نور الروح، ونور الذات؟ أجاب:
الذات خلقت من تراب، ومن التراب خلق سائر العباد، والروح من الملأ الأعلى، وهم- أي الملأ الأعلى- أعرف الخلق بالحق سبحانه.. وكل واحد- أي من الذات والروح- يحنّ إلى أصله، فكان نور الروح متعلقا بالحق سبحانه، ونور الذات متعلقا بالخلق، فلذا ترى الأحاديث القدسية تتعلق بالحق سبحانه، بتبيين عظمته أو إظهار رحمته، أو بالتنبيه على سعة ملكه، وكثرة عطائه، فمن الأول، حديث: «يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم.»..
ومن الثاني، حديث: «أعددت لعبادى الصالحين.». ومن الثالث حديث: «يد اللّه ملأى..». وهذه من علوم الروح في الحق سبحانه.. أما الأحاديث التي ليست بقدسية، فتتكلم على ما يصلح البلاد والعباد، بذكر الحلال والحرام، والحث على الامتثال بذكر الوعد والوعيد..
ثم يمضى الدباغ في حديثه عن الفرق بين القرآن والحديث القدسي، والحديث النبوي يقول: إن الأنوار من الحق سبحانه، تهّبّ على ذات النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تحصل له مشاهدة خاصة، وإن كان دائما في المشاهدة..
فإن سمع من الأنوار كلام اللّه سبحانه، ونزل عليه ملك، فذلك هو القرآن..
وإن لم يسمع كلاما، ولا نزل عليه ملك، فذلك وقت الحديث القدسىّ، فيتكلم عليه الصلاة والسلام، ولا يتكلم حينئذ إلا في شأن الربوبية بتعظيمها، وذكر حقوقها..
وأما الحديث الذي ليس بقدسى، فإنه يخرج من النور الساكن في ذاته عليه السلام، الذي لا يغيب عنه أبدا، وذلك أنه عز وجل أمدّ ذاته عليه السلام بأنوار الحق، كما أمد جرم الشمس بالأنوار المحسوسة.. فالنور لازم الذات النبوية الشريفة، لزوم نور الشمس لها.
ثم يزيد الدباغ الأمر وضوحا فيقول: (إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الكلام بغير اختياره فهو القرآن.. وإن كان باختياره، فإن سطعت حينئذ أنوار عارضة، فهو الحديث القدسي، وإن كانت الأنوار الدائمة، فهو الحديث الذي ليس بقدسى، ولأن كلامه صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون معه أنوار الحق سبحانه، كان جميع ما يتكلم به وحيا يوحى.. وباختلاف أحوال الأنوار افترق إلى الأقسام الثلاثة).
وهذه الأنوار القدسية التي يشير إليها (الدباغ) والتي يستمد منها النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- القرآن والحكمة- هي أنوار النبوة المفاضة عليه من ربه، فكان صلوات اللّه وسلامه عليه نورا من نور الحق، كما كانت كلماته من كلمات اللّه سبحانه.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في قوله: {يا أيُّها النّبِيُّ إِنّا أرْسلْناك شاهِدا ومُبشِّرا ونذِيرا وداعِيا إِلى اللّهِ بِإِذْنِهِ وسِراجا مُنِيرا} (45- 46: الأحزاب).. فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه سراج منير، وهو نور هذا السراج كما يشير إليه قوله تعالى: {قدْ جاءكُمْ مِن اللّهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ} (15: المائد) قوله تعالى: {ثُمّ إِنّ عليْنا بيانهُ}..
هو تطمين للنبى صلى الله عليه وسلم بأنه لن يفوته شيء مما تجلّى عليه من آيات اللّه، وما قذف اللّه سبحانه وتعالى في قلبه من معانيها، التي كان يريد النبي أن ينطق بها، ويصورها كما وقعت له.. فليقف النبيَّ إذن عند حدود الألفاظ التي يلقيها عليه جبريل، وإن كانت هذه الألفاظ لا تكشف كل ما وقع في قلبه من معنى، فإنه مازال الوحى يتنزل، وما زالت آيات اللّه تجيء بتفصيل ما أجمل من أحكام، وأحداث، وقصص.. ولعل هذا هو السر في العطف بالحرف {ثمّ} التي تفيد التراخي، حيث إن البيان إنما تمّ في زمن متباعد، ينتظم فترة الوحى كلها، من مبدأ أول آية نزلت إلى أن تم نزول القرآن كله.
فمثلا قصة موسى مع فرعون.. جاءت أولا في كلمات معدودة، وفى صورة مصغرة جدا، مثل قوله تعالى: {وفِرْعوْن ذِي الْأوْتادِ الّذِين طغوْا فِي الْبِلادِ فأكْثرُوا فِيها الْفساد فصبّ عليْهِمْ ربُّك سوْط عذابٍ} (10- 13: الفجر).
ومثل قوله سبحانه: {هلْ أتاك حديث مُوسى إِذْ ناداهُ ربه بِالْوادِ الْمُقدّسِ طُوى اذْهبْ إِلى فِرْعوْن إِنّهُ طغى فقُلْ هلْ لك إِلى أنْ تزكّى وأهْدِيك إِلى ربِّك فتخْشى فأراهُ الْآية الْكُبْرى فكذّب وعصى ثُمّ أدْبر يسْعى فحشر فنادى فقال أنا ربُّكُمُ الْأعْلى فأخذهُ اللّهُ نكال الْآخِرةِ والْأُولى} (15- 25: النازعات)
ففى هذا العرض الموجز لقصة موسى، كان النبي يرى في كلمات اللّه تلك،- بما قذف اللّه سبحانه وتعالى في قلبه من أنوار الحق- كان يرى القصة كاملة، تتحرك على مسرح الحياة، بأحداثها، وأشخاصها، وأمكنتها.. ثم كان يحاول في أول الوحى أن يمسك بالصورة كاملة، كما وقعت له، فجاء الأمر الرباني:
{لا تحرك به لِسانك لِتعْجل به.. إِنّ عليْنا جمْعهُ وقرآنه فإِذا قرآناهُ فاتّبِعْ قرآنه ثُمّ إِنّ عليْنا بيانهُ} قوله تعالى: {كلّا بلْ تُحِبُّون الْعاجِلة وتذرُون الْآخِرة} هو بيان للطبيعة البشرية التي يغلب عليها حب العاجل من الأمور، والتطلع إلى الثمرة قبل الغرس.. وترى هذه الطبيعة واضحة في موقف آدم من الشجرة التي نهاه اللّه سبحانه وتعالى عن الأكل منها، مع إطلاق يديه جميعا للأكل من كل فواكه الجنة.. ولكنه زهد في هذه الفواكه كلها، ومدّ يده إلى تلك الفاكهة المحرمة، فأكل منها، وعصى أمر ربه، وتعرض لما يتعرض له العصاة، من اللوم والعقاب..
ولم تكن هذه الشجرة، بأكرم أشجار الجنة، ولا أطيبها فاكهة، ولكنه حبّ الاستطلاع، والرغبة في الحصول على كل شيء في اليوم الحاضر، دون نظر إلى الغد..
وحب العاجل كما يكون في المذموم، يكون في المحمود.. كالسبق إلى الخير، والمبادرة بالأعمال الصالحة.. فهذا من مطالب النفوس الطيبة، ومن شهواتها، إن صح هذا التعبير.. إنها تشتهى الخير، والإحسان، وتستكثر منه في يومها، كما تستكثر النفوس الخبيثة من الخبيث في حاضرها، غير مبقية شيئا لغدها، كما يقول سبحانه عن أصحاب هذه النفوس التي استنفدت كل جهدها في الحياة الدنيا: {أذْهبْتُمْ طيِّباتِكُمْ فِي حياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتمْتعْتُمْ بها فالْيوْم تُجْزوْن عذاب الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تسْتكْبِرُون فِي الْأرْضِ بِغيْرِ الْحقِّ وبِما كُنْتُمْ تفْسُقُون} (20: الأحقاف) والمخاطبون بقوله تعالى: {كلّا بلْ تُحِبُّون الْعاجِلة وتذرُون الْآخِرة} هم المشركون، والكافرون، وأصحاب الضلالات، الذين كفروا بالحياة الآخرة وأخلوا مشاعرهم من التعلق بها، والإعداد لها.. وقد حسنت مواجهة المنكرين للبعث، الذين يؤثرون العاجلة، ويذرون الآخرة- حسنت مواجهتهم في هذا المقام، الذي يكشف عن أنفسهم، وهم في مواجهة الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، وحبه لعاجل الأمور في مقام تفصيل الخير، والاستزادة من العلم.. فهذا مقام، وذاك مقام، وإن اشتركا معا في أن حبّ العاجلة قسمة بينهما.. وفى هذه المفارقة البعيدة، يرى المشركون مدى استغراقهم في الضلال، وأنهم إنما ينهون عن الاستزادة من المنكر، والضلال، على حين ينهى غيرهم عن الاستزادة من الخير والإحسان، حتى لا يشق على نفسه، ولا يكلفها فوق ما تطبق.. فالرسول يدعو إلى شريعة قائمة على السماحة ورفع الحرج، وإنه لأولى عباد اللّه بالأخذ لنفسه من سماحتها ويسرها..
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يوْمئِذٍ ناضِرةٌ إِلى ربها ناظِرةٌ}. هو عرض لأحوال الذين يؤمنون بالآخرة، ويعملون لها..
فها هي ذى الآخرة، وهذه هي أحوال أهلها، وما يقع للناس فيها..
فالناس هناك فريقان: مؤمنون، وكافرون..
والمنازل هناك منزلان: الجنة.. والنار فالمؤمنون منزلهم الجنة، والكافرون مأواهم النار..
وفى عرض أصحاب الجنة يومئذ بما يكشف عن وجوههم وحدها، هو عرض لحالهم جميعها، ظاهرها، وباطنها، حيث تبدو على الوجه أحوال الإنسان، وما يكون عليه من نعيم أو شقاء، ومن طمأنينة أو جزع..
ونضارة الوجوه، تحدّث عن النعمة التي يعيش فيها أصحابها، وعن الخصب والخير الذي يحفّ بهم، حتى لقد فاضت الوجوه نضارة وبشرا، وحتى لكأنها الزهر المتفتح على أنسام الربيع في روض أريض.
وقوله تعالى: {إِلى ربها ناظِرةٌ} أكثر المفسرون من المقولات التي تقال في تأويل الوجوه الناظرة إلى ربها، وهل في الإمكان رؤية اللّه؟ إن الرؤية معناها تحديد المرئىّ وتجسيده، واللّه سبحانه منزه عن التحديد والتجسيد.. فكيف يمكن رؤيته؟
وهذه قضية استنفدت كثيرا من جهد العلماء، من المتكلمين وأهل السنة، ولو أنصف هؤلاء وهؤلاء عقولهم، لأمسكوا بها عن الخوض في لجج هذا البحر الذي لا ساحل له، فإن عقولنا تلك، إنما خلقت لهذا العالم الأرضى، ولكشف ما فيه من حقائق، أما عالم الآخرة، فعقولنا بمعزل عنه، فكيف بذات اللّه سبحانه وتعالى؟ وكيف بعقولنا المحدودة القاصرة يراد لها أن تحتوى هذا الجلال الذي لا حدود له، والذي وسع كرسيه السموات والأرض؟
ولهذا، فإن خير ما يحمل عليه قوله تعالى: {إِلى ربها ناظِرةٌ} هو ما ذهب إليه السلف من أن المراد بالنظر إلى اللّه، هو النظر إلى رحمة اللّه،
والطمع في رضوانه، والتعلق بالرجاء فيه، في ذلك اليوم الذي ينقطع فيه كل رجاء إلا منه جلّ وعلا.. وهذا النظر إلى رحمة اللّه، لا يختلف عن معنى الرغبة إلى اللّه، والرجوع إليه، كما يقول سبحانه: {إِنّا إِلى ربِّنا راغِبُون} (32: القلم) وكما يقول جل شأنه: {وإِنّا إِليْهِ راجِعُون} (156: البقرة) أما النظر في وجه اللّه سبحانه وتعالى في الآخرة، وأما إمكانه وكيفيته، فذلك- إن صحت الأخبار المروية عنه- مما نؤمن به غيبا، ولا نبحث عنه صورة وكيفا!! قوله تعالى: {ووُجُوهٌ يوْمئِذٍ باسِرةٌ تظُنُّ أنْ يُفْعل بها فاقِرةٌ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وُجُوهٌ يوْمئِذٍ ناضِرةٌ}. وهو عطف حال على حال، ومقام على مقام.. فهناك وجوه ناضرة إلى ربها ناظرة، تقابلها في الجانب الآخر، وجوه باسرة، أي كالحة مغبرّة، تتوقع أن يفعل بها الفواقر، وهى الدواهي والمهلكات.. والوجوه الناضرة، الطامعة في رحمة ربها، هي وجوه المؤمنين، والوجوه الكالحة المتوقعة الهلاك، هي وجوه المشركين، والضالين.. اهـ.